القرضاوي فقد رشده ، الكاتب إدريس هاني
من يسكت هذا الشيخ
مرة أخرى وعلى صفحات جريدة المصري اليوم، تنطلق تصريحات طائفية لامسؤولة لشيخ ظل حتى حين يوهم مخاطبيه أنه نصيرا لمشروع الوحدة والتقريب والاعتدال. وهي تصريحات اجترها الشيخ منذفترة، ظهرت بشكل فاضح أثناء حضوره فعاليات مؤتمر التقريب المنعقد بالدوحة خلالالسنة الماضية. مفتعلا يومها ضوضاء حول قضية بلا موضوع في شبه مسرحية سيئة الإخراج.
ولا يزال الشيخ فيما يحدث به هنا وهناك مصرا على كلامه لا يحيد عنه قيد أنملة. ومع أنه ما ترك شيئا في اتهام الشيعة والتحريض عليهم والحكم عليهم بالانحراف والضلال والبدعة بوقاحة ومن دون حياء، إلا أنه لم يتحمل أن يرد عليه كاتب من وكالة أنباء شبه رسمية من إيران ولا حتى تحمل ردودا ودية من قبل الشيخ التسخيري والسيد حسين فضل الله المعروفين في الساحة السنية بخطابهما التقريبي والوحدوي. وما أن ظهرت تلك التصريحات حتى تساقطت أوراق التوت عن عورات أخرى في شبه تصريحات داعمة للشيخ من قبل شخصيات ومؤسسات أغلبها يواجه اليوم الإفلاس الفكري والسياسي في الساحة الإسلامية. ويكفي أن جملة من العلماء والفعاليات من العالم مجَت هذا الخطاب الشاذ في المرحلة وردته بكبير أسف. حيث يحسب لهذه الفعاليات احتكاكها الحقيقي بمشكلات العالم العربي والإسلامي، ونباهة فكرها وصحة مواقفها. وانخراطها في مشاريع الأمة وليس في مشاريع غوغائية ذات أبعاد إعلامية وشخصية.
ماذا كان يجب على القرضاوي قوله أكثر مما قاله شططا، حتى يحق لضحايا تحريضاته المتكررة أن يعتبروه رسميا رجل طائفية حمقاء أو رجل فتنة عمياء؟
وبأي نوعية من العبارة غير ما صدر من تصريحاته اللامسؤولة وفي أي ظرفية غير ما نحن غارقون فيه اليوم، حتى لا يحق لنا وصفه بشيخ الفتنة بامتياز؟
كيف نثقف الخلاف لا كيف نهستر الخلاف
إن التبديع والتضليل للشيعة جهارا والتحريض عليهم والتخويف منهم عنوة والتجديف الأهوج الذي بلغ مداه حتى بات هذيانا يشفق على أصحابه وعقدة جاثمة في نفوس هذا النمط من رموز الفتنة، أصبح يشكل استثناء فيما ينبغي التحلي به إزاء حقوق المختلف. إنه ومن دون خجل يسيء إلى عقيدة يعد أصحابها بالملايين المملينة. وهم جزء لا يتجزأ من جملة المليار ونصف مسلم التي يتمشدق بها الشيخ نفسه متى تحدث ببجاحة وفخر عن عدد المسلمين اليوم في العالم ـ بمعنى آخر يقصد مليار ونصف أغلبهم من أهل الضلالة والبدع إذ أغلبية المجتمعات السنية على التدين الشعبي المتهم بالبدعة والضلالة من قبل شيوخ التكفير والتضليل ـ. ربما نسي شيخنا أن الأمة ليست ولن تكون منذ غياب صاحب الدعوة (ص) على مدرسة واحدة ولا على هوى شيخ واحد. فهناك في العالم السني نفسه ـ الذي يحب القرضاوي التعبير عنه كما لو كان رأيا واحدة وعقيدة واحدة ـ أغلبية من المؤمنين يتصوَفون ويعيشون على التدين الشعبي الذي يجعلهم يقدسون مقامات الصلحاء والأولياء ويبنون عليهم المزارات. وهم في ذلك يسلكون على الطريقة الشيعية نفسها. وهم إذ يكفرون الشيعة ويستشهدون بمظاهر التدين الشعبي الشيعي، يكون الموقف شاملا لعموم المسلمين سنة وشيعة، من الذين هم على الطقوس نفسها. إن هذا الفكر هو من جعلهم يوما من الأيام يكفَرون المؤمنين في البلاد السنية ويحملون طقوس أهلها على الشرك.
إن الشيخ القرضاوي يظن خطأ أن الأمة هي سنية فقط أو أحيانا إذا تلطفوا، هي سنية وشيعية فقط. الأمة واسعة متعددة المدارس والمذاهب والطوائف والأقليات. فحتى المذهب الواحد فيه مذاهب، والطائفة الواحدة فيها طوائف. هذا واقع لم يتغير حتى في أكثر اللحظات التي ساد فيها السلطان العاري والتحيز الشقي، حيث أمكن فيها الاستئصال خارج أي رقابة للضمير الإنساني والمواثيق الدولية التي تمنع التحريض وقمع الأقليات والسعي إلى استئصال قناعاتها وعقائدها. فإذا كان هذا يزعج شيخنا وأمثاله، فهو واقع قائم لن تجدي معه شوشرة وزمجرة شيوخ الفتنة. وهو أمر لدينا نحن الطيبون الإنسانيون الأحرار الديمقراطيون التواصليون الحواريون ؛ باختصار المسلمون المعتدلون حقا، مقبول وطبيعي كما هي عادة أهل الدنيا المتحضرين. إن التعددية مصير الأمم قاطبة لا رجعة فيها إلا في خيال الرجعيين. فماذا أعددت لها من خطاب للتدبير السعيد يا شيخنا بدلا عن خطاب الطائفية المتوحش والبالي.
إن الأمم القوية اليوم ليست قوية بوحدة عقيدتها وطقوسها وأساليب دواوين التفتيش. فأنت بهذا الفهم الرجعي تعيش زمن ما قبل الدولة. فحينما تصبح الأمم ضعيفة والدول هشة، فإن كل ما فيها يصلح مبررا للحرب الأهلية. ودائما هناك ما يصلح لذلك عرقيا وطبقيا وجهويا ودينيا وما شابه. إن الخصومات والصراعات التي تقوم في المجتمعات المنسجمة دينيا وطائفيا ومذهبيا لا تقل عن نظيراتها المتعددة المكونات. انظر إلى ذلك الصراع والنزاع اليومي في أرشيف القضاء، القتل والفتك والسرقة والاعتداءات والإهانات والأنانيات التي يقدحها السلوك والثقافة والأوضاع الطبقية وما شابه.
القرضاوي يحب أن يستشهد بالعراق ولبنان. وبوقاحة أيضا يجعل مشكلتهما في وجود الشيعة لا في غيرهم ـ لا يوجد ما هو أوقح من هذا الوصف الطائفي القبيح ـ وكأن التشيع دخيل وجديد على البلدين. وكأن الشيعة هم أصل الفتنة هناك. لكن ما سبب الفتنة في السودان وأفغانستان والصومال وفلسطين وما شابه. ولماذا تفترض أن الفتنة تتبع كل وجود شيعي. وهل وجب أن يكون قربان الوحدة أن نرمي بملايين الشيعة في البحر. ما هو منشأ هذه الطهرانية المغشوشة التي تمنحها نفسك ورأيك: أنا الحق وغيري الباطل.. أنا الصواب وغيري الخطأ.. أنا الإجماع وغيري الشذوذ.. أنا الصراط المستقيم وغيري الانحراف.. أنا محور الاستقرار وغيري مصدر الفتنة.. أنا الغيور وغيري اللاَمبالي.. متى إذن ننتهي من هذا الخطاب الظلامي المهستر، لكي نفتح كوة نحو عالم لم يعد رشده يسمح بحماقاتنا. وماذا يعني شيخنا بأن تقوم الدول السنية بمنع الاختراق الشيعي؛ هل يقصد أن تعلن الحرب رسميا على الدول الشيعية، و تؤسس لها لجانا أشبه بدواوين التفتيش وبوليسا خاصا للضمير وجيوشا تنس كل وظائفها لتصبح حارسة العقيدة، تمنع الناس من القراءة والاتصال بالمعرفة وتتدخل في ضمائر الخلق. من أي غاب أتيت يا شيخنا ومن أي الكهوف امتحيت خطابك الوحشي هذا. ولا تحسب أنك وحدك تملك أن تتحدث وتغضب وتحتج. إن كنت رأيت نفسك كما ذكرت في حوارك مع الصحيفة المصرية أنك خوفت الشيعة بكلامك الذي لا منطق يسند ظهره ولا أخلاق ترفعه، فأنت واهم. يا عزيزي القرضاوي أنت في أرذل العمر لم تعد تملك خطابا يقنع جدتي فكيف بهذا الجيل المتعطش لمن يقنعه لا لمن يستغفله بخطاب ميت ومميت. ومحفوظاتك الخمسينية والستينية تهرأت وتقيحت وما عادت تطرب أهل الحي ولا حتى أهل الدار. هذا واقع أنقله لك من داخل الرأي العام نفسه الذي سعيت ولا زلت تسعى لإثارة عواطفه وانفعالاته في قضايا لا يعلمها حقا.
المجتمعات الغربية يا شيخنا ليست منسجمة في معتقداتها الخاصة ـ كل المجتمعات الغربية هي متعددة تتعايش داخلها مذاهب وطوائف وأعراق وطبقات اجتماعية ومجموعات وأقليات بلون الطيف ـ بل هي منسجمة في إحساسها الوطني المشترك المبني على مفهوم المواطنة والمصلحة والوفاء للأرض والشعب والقيم المشتركة التي تظل مشتركة حتى لو توزعتها المذاهب والأديان والأعراق. بل إن المجتمع المتحضر الذي يحترم كرامة مواطنيه يحول التعددية إلى عامل إثراء وقوة لثقافته. كما أن المجتمع المتخلف الذي لا يحترم كرامة مواطنيه يحول الوحدة الوهمية إلى قبح وملل وجمود وتخلف.
إن قياس عظمة الأمم والشعوب يا شيخنا اليوم هو في مدى احترامها للتعددية والاختلاف وليس في انسجامها الموروث الذي لا يقدم ولا يؤخر، والذي ترعاه الأمية والانزواء. الوحدات المفروضة بالقمع والوهم. إن للتطور ضريبة. فماذا تنتظر من المجتمع المفتوح والعولمة وتقدم التعليم وتطور الحقوق المدنية والحريات العامة وتداخل الثقافات وتصاغر الكوكب حتى بات قرية صغيرة بفضل ثورة الاتصال والتواصل... أتريد أن نقبل بكل هذا دون ضريبة انسياح القناعات. وبدل أن تبحث عن خطاب يدرب عقول الأجيال على احترام الآخر وعلى التسامح، ها نحن نراك تنفث سم التعصب وتختفي داخل قوقعة مذاهبك المحروسة.
دعني يا شيخنا المعتدي أعلمك شيئا من اللَياقة التي يجب أن نتحلى بها جميعا في جيلنا الذي يهوى التعايش والتسامح ويقبل بالاختلاف. إن الخطر لا يكمن في الاختلاف كما يزعم بقايا أزمنة الظلام. إن عصرنا يعلمنا أن نختلف ونختلف في تسامح واحترام، لنلتقي في مربعات مشتركة هي عامل وحدة أقوى من الوحدات المفروضة بالوهم والجهل وكموروث أزمنة الانحطاط. لنختلف حتى نعرف كيف نبني وحدتنا العقلانية الواقعية المقنعة الجميلة: الوحدة في الاختلاف السعيد. الاختلاف هو طريق التوحد الأقوى في نطاق المشتركات المتعددة : الإنسانية الوطنية الثقافية المصلحية التاريخية الدينية... وبدل أن تضع يدا في يد مع المختلف لتربية الأجيال على التعايش والاقتصاد في الخلاف والتوصل إلى صيغ للتعايش والتقارب بين المذاهب بما يؤسس لثقافة جديدة تهذب العلاقة المتوترة بين أبناء الطوائف والمذاهب التي لا أنت ولا من قبلك ولا من بعدك يملك إزاحتها من الوجود، أصبح حاميها حراميها. ألا يردعك عن هذا أن يكون خطابك يشوه سمعة المسلمين أمام عقلاء الأمة وأمام العالم.. ومن سمح لك بأن تعيد رسم الخرائط وتوزيع الجغرافيا. فهل أنت معني ببلداننا أكثر منا. وهل انتماؤنا لأوطاننا أقل من تسلطك عليها بسبب المذاهب المحروسة. إن الذين يخافون كالخفافيش من الاختلاف هم كائنات أحفورية منبعثة من رميم الماضي ومن أزمنة ما قبل الدولة وما قبل فكرة المواطنة وما قبل ثقافة التسامح والاحترام للآخر. ترى ماذا بقي بعد كل هذا.. وما الذي لم يقله شيخنا المفدى لتأجيج الفتنة الطائفية؟
لقد عادت حليمة إلى عادتها القديمة: القرضاوي يغضب ويزمجر فيقول ما لا يجوز أن يصدر عن أهل الرشد. يكفي أن الرادون عليه الممتعضون من تصريحاته اللامسؤولة هم من رجالات الدعوة والفكر والسياسة،. ففي ظرفية صعبة بتقدير أهل الفكر والسياسة، يعبر هذا الفكر الانسدادي عن بالغ شقوته. لم يعد في جعبة شيخنا الأمير ما يقدمه للأمة في هذا الزمان وفي أرذل عمره سوى نفثات طائفية تحريضية هوجاء، قوامها معلومات مغرضة تارة وساذجة تارة أخرى. كأني بشيخنا الأمير قد أفلس في سوق الدعوة والدعاية فشاءت له شقوة أرذل العمر أن يكبكب في حجيم الطائفية الرعناء ويختطف له بعض الأضواء في (مجاكرات) ضارة بحاضر الأمة ومستقبلها.
التخويف والتحريض والقتل بالإشارة، تلك أسلحة شيخنا اليوم في سوق من التهريج الطائفي يعاني أهله كسادا مريعا على مستوى الرشد. ترى ما هي دوافع شيخنا الأمير وما هي مطالبه وما هي غايات تصريحات حمقاء كهذه. وقبل ذلك كله ما معنى ما قال؟
شيخنا الأمير يقول إن الشيعة ضالون مبتدعون. وهو لم يكفرهم أو يصفهم بالكفر البواح ـ كثَر الله خيره ـ. فهو يتفضل على الشيعة بأنه لم يكفرهم لكنه اكتفى بتبديعهم وتضليلهم. فهم في محكمته الخاصة التي تستند إلى رأي إجماع مذهبه وليس إجماع الأمة بكل أطيافها ومدارسها ضالون مبتدعون. وإذن أمثالهم لا تقبل شهادتهم ولا روايتهم ولا يحملون على محمل ـ وبالتالي حتى مقاومتهم ليست معتبرة ولا دماؤهم محترمة لأنهم ليسوا عدول حتى لو كانت مقاومتهم هي التي يدفع البأس عن الأمة كلها وليست ثرثرة القرضاوي كلها بقادرة على تغيير واقع ذل العرب والمسلمين. هذا هو التكريم المنتظر منه لمن قدموا أرواحهم ورهنوا مصيرهم للدفاع عن الأمة..إنه دم رخيص لا اعتبار له حتى لو أهرق في الدفاع عن كرامة الأمة، لسبب بسيط وقناعة ضميره: أن هذا الدم هو مهدور سلفا وهو غير محترم فقها: هو دم مهرق بالقوة في خيال شيوخ الفتنة. ما قيمة دم يراق في سبيل كرامة الأمة وقد كان من المفروض أن يراق شرعا. فالدماء التي يقدرها هؤلاء هي الدماء المحترمة. والدم الذي سال في حرب الكرامة هو دم غير محترم. هل عرفت لماذا كل هذا الاستهتار؟
لكن ثمة صك غفران تكرم به شيخنا الأمير، وذلك حينما نزع عنهم الكفر البواح. على الأمة أن لا تخدع بهذا الخطاب المغرض لأنه يعنيها جميعا ويجعلها تتآكل من أطرافها. اليوم الشيعة وغدا الصوفية الذين كفروهم وبدَعوهم حتى شبعوا وآخرون مثل الزيدية والاباضية.. وغدا سلفية ضد أهل السنة.. وبعد غد حنبلية تكفر وتبدع مالكية أو شافعية أو حنفية.. مسلسل التضليل والتبديع هنا ثقافة وعادة وأحيانا هسترة لها نوبات.
وإني أسميه شيخنا الأمير، لأنه يتصرف كأمير يخول له خياله الفقير أن في مقدوره التحكم في ضمائر الناس وعقائدها. ففضلا عن أن هذا موقف لا يجدي نفعا، فهو موقف استفزازي أهوج. شيخنا يتصرف كأمير يصادر الأمة حقها في الاختيار. فيما يعنيني شخصيا أقول: طز وألف طز على هذه الهسترة المرضية. أكبر قوة في العالم لن يكون لها الحق ولا القدرة على أن تسلب من إنسان حر قناعاته. فقناعاتنا لا تسلب بقوة ولا تباع في سوق النخاسة. لكن أخلاقنا تفرض علينا ـ ونحن قادرون أكثر من شيخنا الأمير المسكين على أن نملأ الدنيا ضوضاء من هذا القبيل ـ أن نختار ما فيه مصلحة الأمة. قناعة لا خوفا..إحساسا بالمسؤولية لا تقية تجاه من لا يهابهم نمل الأرض.
من جهة أخرى زعم شيخنا الأمير أن الشيعة تصرف الملايين بل البلايين على التبشير الشيعي ـ يا لها من عبارة مغرضة ـ. ويبدو الأمر واضحا هنا. إن شيخنا الأمير هو أكبر من صرف أو صرف له للدعوة ـ أو بالأحرى التسلط والتفرد بوسائل الدعوة ـ، وهو يقوم بما لا تقوم به مؤسسات شيعية مالا ورجالا. فهذه الفضائيات العربية تفتح له المجال ليعبر عن رأيه بلا رقيب. بل هذه الجزيرة وهي الأوسع انتشارا والقناة العربية الأولى تفسح له أوسع المجال للتعبير عن رأيه وزيادة كشيخ أمير. فما الذي يزعجه من تلك القنوات البسيطة والضعيفة والتي لا زالت تتكامل في مهنيتها، وهي تؤكد على أن الشيعة لو كانوا كما يصورهم القرضاوي يصرفون البلايين على دعوتهم لكانت قنواتهم مهنيا وتقنيا هي الأولى. المسألة وما فيها أن شيخنا الأمير وجد أن سوقه كسدت بعد صعود نجم الشيعة ـ رغما عن عين شيخنا الحسود ـ بعد أن تحولت عن خطابه المكرور والممل والانسدادي الأضواء وسلطت على جيل غير جيله وعلى آفاق غير آفاقه. إنه أصبح يرى خطابه مقارنة مع الذي يجري أكثر عثيانا، فقرر أن يقول شططا. ثم بعد أن أعلن تضليله وتبديعه للشيعة ـ عينك عينك ـ يبرر كأحمق أنه قال الحق ويتساءل : لماذا يردون عليه؟؟. لكن ما لا يريد أن يفهمه شيخنا الأمير ولا مريدوه الذين حجب عنهم الشيخ رؤية العالم الجميل من حولهم، أن الشيعة حتى اليوم لم يحاربوه ولم يردوا عليه كما يستحق حتى وإن كانت الهسترة الطائفية قد بلغت مداها مع شيخنا الأمير.
تصريحات القرضاوي: عنترية في غير محلها
من حق المرء أن يتساءل عن الأسباب الحقيقية التي حركت القوة الغضبية للشيخ القرضاوي بافتعال توتر بدا في تصاعد في الزمان والمكان غير المناسبين. ومن حق الناس أن يرقوا في تحليلهم حول سر هذه الهجمة الطائفية التي بات القرضاوي لا يحسن سواها، فلا يستسلموا لتبريرات الشيخ الذي اعتبرها مجرد كلمة حق يريد أن يبرئ بها ذمته الواسعة. وقد بدا الشيخ متشرعا إلى حد نسي مقاصده كلها ونسي اجتهاده كله ليتحدث في زمان استثنائي لا يسمح بالحماقة وفي منطقة ملتهبة لا تقبل برسم أحمق. لقد اعتبر الشيخ أن تأصيله لجدبته الطائفية الحمقاء هو تطبيق سد باب الذرائع. وأقل ما يقال في هذه الجذبة أنها حمقاء، لأنها طائفية بامتياز. ومهما حاول الشيخ أن يبرر نزعته الطائفية التي انكشفت كفضيحة قبيحة، أنه جاهر برعونة في تضليل وتبديع الشيعة، مبرزا نزعة استئصالية لا تجرئ فقط السفهاء على استباحة دمائهم في مناطق التوتر الطائفي بل استمر في تحريضه النظم على أن تتدخل بطريقتها التي لا يهم أن تكون دموية قمعية تحاسب الناس على قناعاتهم وضمائرهم.
لقد أثبت القرضاوي أنه استئصالي يعيش عصرا غير عصرنا. وانه ظهير فقهي للاستبداد ودواوين التفتيش وخطاب التبديع والتضليل وأنه زعيم مشروع سماه جهل منه: "هذه بلاد خالصة للشيعة وتلك خالصة للسنة". لكنني أسأل القرضاوي: وأين توجد الأمة الإسلامية؟ وحيث أن الشيخ بات مدركا أن خطابه لم يعد مقنعا للناس، وأن إفلاسا دعويا يتهدد صيته الذي بناه على أرضية الاحتكار المعنوي للدعوة، صمم على أن يلفت النظر إليه ولو بالانزلاق إلى ضحالة الخطاب الطائفي. إن القرضاوي ساير في خطابه الأهداف الملحة للاستئصاليين والقمعيين وكذا للمشروع الصهيوني الذي كان ولا يزال في حاجة إلى أن يسقط شخص مثل القرضاوي في لعبة التفريق ونفث الروح في الطائفية الهوجاء.
لقد أزعج شيخنا ذلك التقارب القطري الإيراني وكذا وقوف قطر مع المقاومة. فصدم بالواقع الجديد. انتهى الزمان الذي كان فيه القرضاوي وحده يملك أن يحتكر القول الديني كأمير في قطر. ففي قطر تقام نشاطات دينية مفتوحة، من شأنها أن تفتح الآفاق على خطاب ديني غير ركيك ومكرور وسطحي فكرا وفقها بات يبعث على الملل. يريد القرضاوي أن يشوشر ويرهن خطابه التحريضي لجهات خارج قطر في نوع من الضغط غير المباشر على قطر نفسها لتوتير العلاقة بين الخليج وإيران. وهو التوتر الذي عاش في مناخه شيخنا كأمير وليس كرجل دعوة. فالأموال التي يتحدث عنها القرضاوي والتي زعم أنها تصرف على الدعوة الشيعية لا تقارن بما يصرف على حياته الشخصية وجولاته الوعظية التي لم يعد لها من مصداقية ولا من طعم بعد أن أصيب بالهسترة الطائفية. القرضاوي أغنى الدعاة وهو أغنى من كل المراجع الشيعة. فالأموال الشرعية لا تصل إلى المرجع بل هي تصرف على مستحقيها في الطريق. بينما الأموال الشرعية هنا تصرف في البذخ الشخصي وعلى القصور التي لو قورنت بأكواخ مراجع الشيعة لبان الفارق الفاحش. التهريج الطائفي الذي نزل به القرضاوي إلى الجمهور أسقطه في عين العقلاء.
أجل، لست هنا في وارد مناقشة شيخنا الأمير نقاشا فقهيا أو عقائديا لأسباب، منها أن المقام ليس فيه سعة. وحتى لو وقع فنتيجته محسومة سلفا. لكنني أناقشه في عموم الموقف فكريا وسياسيا وأخلاقيا. إن القرضاوي يعرف في قرارة نفسه أنه أقل جدارة من أن يناقش في تفاصيل اتهامه للشيعة. وهو لذلك لاذ بالإعلام يخاطب العامة لا العلماء. ولا أريد أن أتحدى القرضاوي إن كان يستهويه مخاطبة العامة أن يتكرم علينا في برنامجه الشريعة والحياة في مناظرة مباشرة حول مزاعمه الحمقاء وجها لوجه. أعلم مسبقا أنه لا يعرف عن الشيعة إلا بمقدار ما يعرفه فلاح من منغوليا عن الإسلام. نعم إنه يعرف شيئا آخر عن الشيعة والتشيع، تلك الصورة النمطية الغثيانية التي حفظها وتعلمها كالغرير في متون خصومهم..وهذا ليس علما ولا تحقيقا ولا رشدا في الفهم والتفهيم.
أريد أن أعلم القرضاوي الذي فاجأنا بحماقاته اليوم أنه غير مؤهل للحديث عن السلم المجتمعي والسلام العالمي والحوار والتواصل والتقريب والوحدة. إن الذي يدعو إلى تغيير المصطلحات فيقول المواطنة بدل أهل الذمة لا يزال مصرا على أن يضلل ويبدع الشيعة. فمتى يغير القرضاوي معجمه الطائفي حتى يتسنى له الانتماء إلى العصر الحديث؟
الأمة تمر يا قرضاوي مما لا حاجة للتذكير به من إكراهات وتحديات. وهي في حاجة إلى من يصلح حالها ثقافيا واجتماعيا وسياسيا.. يهدئ من روعها لا يشنجها.. يثقفها لا يهسترها.
العصر يا قرضاوي يتطلب ذهنية جديدة وفهما للدين أبعد من أنف شيخنا الأمير. العصر يتطلب منا تعديلا جذريا في سياستنا الفقهية والكلامية والمعجمية : كيف نقبل بالآخر المختلف دون أن تمتلئ قلوبنا قيحا.
أنت يا قرضاوي تقول إننا نحن أهل السنة مجمعون على تضليل الشيعة وتبديعهم وهناك من يكفرهم. طيب، هل أنت واعي بما تقول؟
من ضلل الشيعة وبدعهم؟
أنتم، أي المخالفون..أي مدرسة واحدة من مدارس الإسلام الكثيرة..هل الإسلام هو الذي ضللهم وبدعهم..هل بين أيدينا فقه وكلام إسلامي مشترك أو مجرد يصلح أن يحكم بين المدارس الإسلامية أم إن المسألة هي تضويخ واحتيال على ضمير الأمة، حيث تعتبرون حكمكم الطائفي والمذهبي حكما للإسلام. وإذن وجب أن يقال إنه دليل بدليل، والمطلوب إسلاميا (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين)..بل المطلوب دينيا وأخلاقيا: (وبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه). وأنت شيخنا الأمير لا أتيت ببرهان ولا أنت أحسنت السمع للقول. بل أراك اكتفيت بوردك الطائفي التقليدي ورميت به رمية أعشى. وحيث لا دليل ولا مناظرة مكشوفة ولا هم يحزنون، فكل كلام لن يكون سوى تجديف وادعاء وحمق ورجم بالغيب.
العصر يا قرضاوي يقتضي منك التثبت في معرفة الواقع. فانت يزعجك أن هناك من تشيع ثم تعلن نفسك وصيا للدفاع عن السنة. سؤالي لك: من أعطاك الحق في أن تمارس هذه الولاية على الناس والتحجير على عقولهم.. وبأي فقه وبأي أخلاق وبأي كلام تمنح نفسك هذا الحق فيمن أراد أن يقتنع بفكرة هنا أو هناك مما هو ملك وتراث للأمة جميعا. فالتسنن كالتشيع هو ميراث أمتنا لكل عاقل الحق أن يعرف ويفهم ويقرأ ولم لا يقتنع. أم أنك تقول ليس من حقه؟..وماذا تريد من النظم أن تفعل حيث بت تحرضها وتستنجد بها تكتيكيا بعد أن كنت تحرض على الانقلاب عليها، وبعد أن كان لخطاباتك في آذان جماعات الدم طنينا أوردهم موارد الهلكة فقتلوا اليابس والأخضر فأفسدوا العراق بمقاومة حمقاء تخطئ المحتل وتصيب المدنيين في الصميم. فهل تنتظر من هذه القوى أن تعلن الحرب على الشيعة شعوبا وأنظمة لكي ترتاح من المنافسة العقلائية الشريفة..هل المطلوب أن يمنعوا فضائياتهم ويدخلوا من حصلت له القناعة بفكرهم إلى السجون والمقاصل ويحاكموهم كما في دواوين التفتيش.. ماذا تقصد ويقصد حمقى آخرون ممن زمزموا حول الفتنة أن تتدخل الجهات المعنية..ومتى كانت الجهات المعنية غائبة حتى تخبروها شططا بما يقع. أم إنها محاولة لتوريطها في مصائب وقضايا بلا موضوع. حتى يخلوا الميدان للقرضاوي ليعيد شراء أسهم الدعاة المقموعين ويتربع على كرسي إمارة الدعوة لمواصلة تكرار محفوظاته العتيقة ؟
العصر يا قرضاوي تجاوز خطابكم الاستئصالي والتحريضي والدموي، وتناساه كما تناسى أي حماقة جاثمة في ذاكرتنا الشقية.
العصر يا قرضاوي يسلك طريقا يحتاج إلى التسامح كله والانفتاح كله والعقلانية كلها والتواصل كله والفهم كله.
العصر يا قرضاوي جعل عالمنا أعقد مما تصوره كلماتك في الشريعة والحياة، وأوسع مما تصوره فانتازيتك الطائفية الحمقاء.
العصر يا قرضاوي عصرنا جميعا لا عصرك وحدك. لن ترسم لنا خريطة الطريق فـ(لكل وجهة هو موليها. فاستبقوا الخيرات).
العصر يا قرضاوي يقتضي أن تصلح وتهذب عبارتك ولا تقول ما يجرح الآخر.
العصر يا قرضاوي لا يسمح للرعونة في الخطاب أن تدوم إلا بمقدار ما يتحملالعقلاء الحمقى. أي مقدارا قليلا قبل أن يقذف بها في مزبلة التاريخ. فلا ينفع أنتغضب وتقول شططا. فالتاريخ أكبر من أن يتغير بمجرد افتعال الهسترة الطائفية.
العصر يا قرضاوي ناضج إلى حد لا يلتفت إلى الغوغائية ولا يصحح إلا الصحيح. ولا يقبل بخطاب : اقتلوهم تحت كل حجر ومضر، وبالشبهة والظنة.
العصر يا قرضاوي لا يسمح لك بأن تحكم بالضلال والبدعة على من خالفك الرأي بدليل. وليس لك إلاَ حق مقارعة الدليل بالدليل. وفي غياب المناظرة المكشوفة والصريحة كالتي أظهرت فشلك وقبح أسلوبك وضحالة حيلتك في لقاء جزيري سابق مع الشيخ رافسنجاني، ما عليك إلا أن تصمت أو تتحدث باحترام.
سألت مرة أحد أصدقائنا من المشايخ الأزهريين بدعابة ـ وهو من اشتغل سبعة سنوات في مكتب شيخنا الأمير ـ : ما رأيك فيمن يضيق صدره من الآخر ولا يسمح بالرأي الآخر.
أجاب الشيخ الأزهري: .... ( بضم الحاء) .